ثقب في الذاكرة

هو الحنين ..
فمن غيره يقرع باب قلبي ونوافذ ذاكرتي في هذا الوقت المتأخر من الغياب ؟
وماذا عساي أقول للنسيان الذي وعدته أن أكون وفية له ؟
وها أنا الآن أخونه خلسة … وربما علناً في الغد .
هو الحنين ..
هذا الزائر الملح الذي يأتي دائماً في الوقت الذي كنا نظن فيه أننا نسيناه ..
يأتي ليسخر منا ومن اعتقاداتنا..
يأتي لينسفها ويرمي بها في صندوق أخطائنا التي لم يعد يتسع لها أي صندوق .
هو الحنين يعيدنا لأشياء وأشخاص وأماكن ..
يعيدنا لسنوات مضت ويأخذنا لسنوات قادمة ..
ويمضي بنا متنقلين في الزمن ..
وخارج الزمن.
يأخذنا ليوم لا يؤرقنا فيه بكاء الياسمين عند منتصف الليل على ضفاف البحرة الدمشقية …
لليل لا تنير فيه أضواء القذائف درب العائدين إلى بيوتهم بعد نهار طويل من مواجهة الموت ومطاردة الحياة ..
ليوم تغلق فيه أكشاك بيع التذاكر أبوابها في وجوهنا وتصيح :
“لم يعد هناك تذاكر لأنه لم يعد هناك سفينة أصلاً !
لقد تحطمت سفينة الحزن على إحدى صخور الأمل ..
فارحلوا من هنا ولا تعودوا مرة أخرى !”
لدقيقة نتكئ فيها على سيارة ولا تنفجر فينا محولة إيانا إلى أشلاء وأسماء في مهب النسيان ..
لليل ننام فيه حين نشاء وبملء إرداتنا دون أن تجبرنا فوهة لبارودة ما على النوم الأبدي وبدون حلم ..
لصباح نستيقظ فيه ونروي أحلامنا لا كوابيسنا ونتناول طعام الإفطار وقهوة الصباح دون أن يقاطعنا ويقتل شهيتنا خبر رحيل أحدهم إلى المقبرة المجاورة ..
لأزهار نضعها في مزهريات جميلة تزين بيوتنا ويهديها شاب لحبيبته وطفلة لأمها
وتزرعها امرأة على مائدة عشاء لشخصين على ضوء الشموع ..
دون ان نشعر بالألم وتأنيب الضمير لأننا لم نضعها على قبر الشهيد الذي لا نعرف اسمه !
أو ربما نعرفه لكننا نسيناه في زحام الأسماء !
لشمعة لا تذكرنا بالليالي المعتمة والمستقبل المعتم الذي ربما يكون في انتظارنا ..
لأغنية أو لحن لا ينهش لحم ذاكرتنا ولا يغرس شوك الحسرة في قلوينا موقظاً ذكريات مرتبطة به ومقيداً إيانا إلى شجرة الأرق !
ليوم نمر به على الدكان الذي اعتدنا ان نشتري حاجياتنا منه ولا نراه مغلقاً لأن صاحبه قد قرر أن ينقل سكنه ودكانه إلى الجنة ..
فنشتري الشوق والألم ونترك قلبنا هناك مكان القفل ليحرس الدكان في حال غيّر صاحبه رأيه .. وعاد !
لهوايات نحبها ويمضي الوقت سريعاً ونحن نقوم بها ..
لرياضات كنا نمارسها لا تشبه في شيء ( مناورة الرصاص .. وركوب الجنازة .. وسباق القذائف ) ..
لسفر أو رحلة لا تدخل في إطار النزوح أو اللجوء ..
لخيمة في مخيم صيفي لأطفال الكشافة لا لخيمة ذل على حدود وطن (عربي) آخر ..
لقفص عصافير جميل لا يذكرنا بآلاف العصافير القابعة خلف قضبان الألم والنسيان ..
لطفل يغني :”ألف .. أرنب” لا ” سكابا يا دموع العين سكابا” ..
لزمن لا يتحول فيه كل لون أحمر في نظرنا إلى دم وموت ..
لأشخاص لم يرحلوا ..
لم يرحلوا !
ولم ترحل قطع من أرواحنا برحيلهم !

هو الحنين ، هذا الجلاد الذي يجيد الضرب على أوتار الشوق ويثير الفوضى في داخلنا ثم يتركنا على حافة الجنون ويرحل راسماً على وجهه ملامح البراءة ..

ها هو يقرع باب ذاكرتي الآن .. فهل أفتح له ؟
لن أفعل .. وسأحكم إغلاق الأبواب والنوافذ ..
لن أسمح له بالدخول ..

هو الحنين .. إنه هو !
أمامي الآن !
ويحك ! كيف دخلت ؟

_ من الثقب الذي صنعته القذيفة في جدار ذاكرتكِ أيتها البائسة !

4/5/2013
الساعة الثانية بعد اقتحامه !

12299244_544177955748757_3762297983052707412_n